بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد ل
له على عباده جاد، بدأهم بالفضل وله عليهم أعاد، آلائه عليهم سابغة ما خفيّ منها أعظم مما هو باد في فضله يتقلبون فهو عليهم ما بين طريف وتلاد وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ما مرّ تال بذكر قوم هود عاد ثم أما بعد لقد قص الله عز وجل علينا قصة أصحاب الأخدود والطريقة التي انتهت إليها؟ إنها حادثة مؤلمة جدا، أن يحفر الكفار أخدودا في الأرض، ثم يؤججوا فيه النيران، ثم يلقوا فيه أناسا أبرياء لا ذنب لهم سوى الإيمان " وهم علي ما يفعلون بالمؤمنين شهود " ولحكمة يعلمها الله عز وجل لم يذكر في نهاية القصة أنه عاقب أولئك المجرمين أو انتقم منهم كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط، أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر.
وعند المقارنة الدنيوية وإغفال عالم الآخرة، يكون هؤلاء المجرمون هم المنصورون، وأولئك المؤمنون هم الخاسرون، لكن الله عز وجل أخبرنا في هذه الحادثة بهذه النهاية المؤلمة، ليعلمنا ويخبرنا وليكشف لنا عن حقيقة أخرى، وهي أن الحياة الدنيا بما فيها من لذائذ وآلام، ومتاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، ولكن القيمة الكبرى في ميزان الله عز وجل هي قيمة العقيدة، والسلعة الرائجة في سوق الله تعالى هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الشرك والكفر، فالله عز وجل شهيد على هذه الحادثة، وهكذا إتصلت حياة المؤمنين في الأرض بالحياة الباقية الخالدة في الملأ الأعلى، وإتصلت الدنيا بالآخرة.
ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر، ولم تعد الدنيا هي خاتمة المطاف، ولا موعد الفصل في هذا الصراع، ولقد إنفسح المجال في المكان والزمان، والقيم والموازين، وإتسعت آفاق النفس المؤمنة، وكبرت إهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها، وصغرت الحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما معه من إيمان غيبي، فأخبر عن العقاب الأخروي لهؤلاء المجرمين، أما أولئك الذين صبروا وأحرقتهم النار في هذه الدنيا، فيقول الله عز وجل في شأنهم " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير، فهذا هو الميزان وذلك الفوز الكبير ولو أجرينا مقارنة بين الكفر والإسلام، لوجدنا أن دين الله قديما وحديثا هو الغالب، وهو المسيطر مدة أطول من سيطرة الكفار.
فهل تعلموا أن الناس بعد آدم عليه الصلاة والسلام ظلوا مدة عشرة قرون على التوحيد والإسلام ؟ وهل تعلموا أن أمتنا ظلت حاكمة منذ بعثة نبيها المصطفي صلى الله عليه وسلم إلى زمن سقوط الخلافة العثمانية في عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرون ميلادي، وهو أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان وهي أمة ظافرة منتصرة، بيدها تدبير كثير من أمور الدنيا حتى الأمم الكافرة، وهذه هي التي طالما تغنى بها كثير من شعراء المسلمين، فقد خاطب هارون الرشيد سحابة رآها تجري فقال أمطري حيث شئتي فسيأتيني خراجك، فهذا ما كان في الماضي، أما عن مستقبل هذه الأمة فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن المعركة الفاصلة مع اليهود، إذن لا يجوز أن نقارن لحظة معينة من عمر التاريخ وننسى الماضي كله، والمستقبل كله.
فإن تسلط الكفار في هذا الوقت إنما هو تسلط مؤقت بقدر من الله عز وجل، ولحكمة منه سبحانه وتعالى، ودين الله غالب، ونصر الله قريب، فيقول تعالي " والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فهذه الأمة منصورة بإذن الله تعالى، وإنما تحتاج إلى من ينفض عنها الغبار، فربما يقتل أناس من هذه الأمة، وربما تباد جماعات ومجتمعات، وربما تسقط دول وتذهب أسماء وشعارات، وهذا كله صحيح، ولكن الإسلام باي، والذي يريد أن يواجه الإسلام، أو يحارب الإسلام مسكين، مثله كمثل الذبابة التي تحاول حجب ضوء الشمس والله متم نوره ولو كره الكافرون، حيث قال الله تعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ولو كره المشركون "