سنيمائية المشهد الاستدراكي في السرد.. قراءة في رواية ستائر شفافة للأديبة صباح عبدالنبي. الراصد24 -->
جريدة الراصد 24 جريدة الراصد 24

داخل المقال

جاري التحميل ...

سنيمائية المشهد الاستدراكي في السرد.. قراءة في رواية ستائر شفافة للأديبة صباح عبدالنبي. الراصد24

 


بقلم / جابر الزهيري

سنيمائية المشهد الاستدراكي في السرد.. قراءة في رواية ستائر شفافة للأديبة صباح عبدالنبي الراصد24


للسرد الأدبي وما يحتويه من جماليات تتمثل بداية في إتقان السارد لحرفية تجسيده لكل شخوص العمل بحالاتهم الشعورية فضلا عن مستوياتهم الفكرية أو الاجتماعية أو ميولهم الشخصية – رغم ميله لشخصية متفردة في العمل يبثها من شخصيته الأصلية – وكذلك اعتماده على شخوص حقيقية مر بها في أحداث حياته ليضيف إليها من جعبة فنياته لتتمحور كشخوص جديدة من عمل عقله إلا أننا نلحظ أن هدفا ما يطارده منذ بداية شروعه في الكتابة ألا وهو الهدف الرئيسي من العمل الأدبي – بعد هدف الإمتاع الوجداني – ليكون حلا لعقدة العمل الأدبي الذي شرع في تكوين عالمه.


وللسارد أن يكون ذو ثقافات متعددة لتتناسب كتاباته مع شخوصه التي ابتكرها وصنع لها عالما خاصا فلابد له من امتلاك المعلومات التي لا تتعارض وطبيعة كل شخصية فرجال الطب يختلفون عن رجال القانون أو الهندسة أو العلوم الشرعية ، وكذلك العامة من ذوي الثقافات البسيطة وما يمثله لديهم قانون الأعراف والتقاليد، خاصة إذا كان التحديد الزماني والمكاني للعمل يؤكدان عدم انتشار الثقافات الرقمية المتاحة حاليا، فيتعايش الكاتب مع تلك الحدود بفنيات كتابة العمل الأدبي من تصوير فني ولغة مناسبة لإنجاح مشروعه الإبداعي.


وفي العمل موضوع القراءة نجد أن الكاتبة جعلت من أسماء شخوص العمل طريقا لشخصياتهم فنجد أن الشخصيتين المحوريتين للرواية هما ( طاهرة وطاهر) لتجعل الأولي موضع اتهام خلقي يستوجب قتلها بحكم التقاليد ويكون الجلاد أخاها دلك الشاب المتعلم والمقيم لفترة طويلة خارج نطاق البيئة التي يحكمها العرف والتقاليد بل والمتزوج من تلك البيئة الجديدة وكذلك هو الموقن بطهرها وعفتها ليحمل وزر دمها فهو كما قالوا له (صاحب العار) ، كان للكاتبة هنا فلسفة اللعب بالأسماء تطبيقا للمقولة الشهيرة (لكل اسم من مسماه نصيب وليس معهما فقط ، بل في الكثير من أسماء شخوص الرواية 


نجد أن الكاتبة في هذا العمل قد قررت أن تجذب انتباه القارئ منذ السطور الأولى للعمل؛ حيث بدأت بداية مشوقة باستدراك جريمة مشابهة لما ستدور حوله الأحداث وما يحمله نجل تلك السيدة التي رغم تستر شخص من رجال القرية عليها كحماية لها وجنينها من مجتمع يحكمه الانتقام للشرف والثأر له حتى قبل التحقق من ثبوت الجرم، وهنا تلعب بفلسفة الأسماء أيضا في اختيار اسم الشخص فنجدها تطلق عليه (الشيخ جابر) وربما كان اخيارها لجبره خاطرها بحمايتها من مجتمعهم رغم ملاصقة أثر الجرم للسيدة وولدها فيشب ذلك الوليد ومعه العار الذي لازمه، لتجعل من هذه التقدمة استنتاجا ظاهريا للقارئ فيما سيأتي من اتهام طاهرة في جريمة مشابهة حتى تطيح بذلك الاستنتاج في ما ستكشف عنه من أحداث.


تتعرض الكاتبة لجانب طبي حساس يمس عفة المرأة وهو حمل البكر التي لا زوج لها دون اقترافها لجريمة الزنا، وكذلك دون تعرضها لاغتصاب كما كان في الجريمة الأولى التي بدأت بها، ولكن بخطأ ناتج عن الجهل بعلوم الطب مستشهدة بمعلومات طبية تسوقها على لسان متخصص من أبطال العمل وكأنها تقرع أجراس إنذار لمجتمع ربما قتلت فيه الكثيرات من أمثال بطلة الرواية ظلما، فالمجتمع الشرقي عادة ما يتوارى تفكيره المنطقي خاصة في ما يمس الأعراض، - خاصة في مناطق الجنوب - باعتبارها منطقة تقديس لا يغفر مساسها إلا الدم.


 يظهر لنا تأثير الثقافة الدينية لديها بحوار الشيخ مع طاهرة حال تحققه من أمر حملها بأسئلة تحمل من العفة والحياء لفظا ومعنى؛ لتجعل من الاقتباس الضمني لمحاورة قوم مريم العذراء لها حال قدومها عليهم بطفلها مرجعا عقليا للقارئ، وكأنها تشير إلى أن الحكم بالظاهر في بعض الجرائم كان له مرجعا دينيا لابد من تذكره حال مواجهة المتهم، وكذلك نجد للتأثر بالتضمين للتراث الديني ذلك التماثل بين خروج طاهر عن بيئته الجنوبية وعن مصر بأكملها لاستكمال دراساته والاندماج مع المجتمع الجديد الذي وإن قلت فيه بعض القيم نتيجة للتحرر فإن المنهج الأساسي لهم هو العلم وبين خروج موسى عليه السلام من مصر هاربا من بطش فرعون إلى أرض مدين ليعود بالرسالة والنبوة كذلك يرجع طاهر لقومه بالعلم الذي يثبت براءة طاهرة. 


مشهدية الاستدراكات للماضي بينه وبين حبيبته الأولى ( الأصل ) لتيميز لديه ما كان به من انبهار خاطئ بفتيات الغرب اللاتي تزوج بإحداهن فكان عطر تلك السمراء هو مادة جذبه إليها وتسميته طفلته باسمها لتكون صورة ذلك الترابط ماثلة أمامه فهي (شهدان) تلك التثنية التي جمعت بين وادي النيل من السودان ومصر وتنسم عبقر الذكريات الأولى للوطن / الطفولة/ الأرض من ذلك العطر الذي يحاول جعل شذاه على تلك التي تزوجها فيشعره بالحنين إلى أصوله، كذلك حرفية الكاتبة في نقل المشاعر المختلطة بين الشفقة والحزن وبين الغضب والثأر عند والد البطلة حال استقدام شقيقها الطبيب للتخلص من عاره، ومشاعر الطبيب ذاته التي لم تغيره ثقافات الغرب رغم تزوجه من فتياتهم لتجعل شعاع الأمل يخرج من دائرة العشق القديم فيلجأ لحبيبته الأولى ورفيقة الصبا الطبيبة شهدان ذات الأصول السودانية وارتباط شريان النيل بينهما وكأنما هو ترابط حياة ليس مشاعر وفقط فيلجأ إليها دون غيرها لتحمل معه ذلك الهم محاولا وجود مخرج.


يبدأ الاستدراك الذي استمر فترة يوم وليلة (وقت تخدير طاهرة للجراحة وحتى إفاقتها) ليكشف سلبيات التعليم في المنطقة العربية بأكملها وليس في مصر فقط أو في الصعيد خاصة كذلك الخوف من مواجهة واقع معاش تغطيه ستائر اسمها التقاليد لفظا ولكنها الجهل مضمونا يغلفه لفظ (مجتمع شرقي) لتجاوز نقاط مواجهة العقل لظواهر أخلاقية تنبت سراً في المجتمع فمنها ما يتم التخلص منه سرا بدافع الثأر للعرض ومنها ما يتم فضحه بالمجتمع ، وقد أشارت إلي النموذجين، في مشاهد تجعل القارئ أمام مراحل حياتية متعددة لطاهر وشهدان منذ الطفولة وبدايات التعلم، حيث تتعرض لدروس العلوم التي يستحي من شرحها المعلمون سواء للأولاد أو البنات وكذلك الحياء من مجرد إجابة سؤال لأحدهم، واتهام الراغب في المعرفة بتهم تتم معاقبته عليها ومحاولات تكثيف لون الصمت الأسود على ستائر عقول الطلاب بمبرر الحياء أو الخوف من أصحاب النفوذ ممن يتمسح بهم ناظر المدرسة، مما يتضح من موقفهم سواء الظاهر أو الخفي من مدرسة التربية الرياضية (نهود)، وكأنها تريد رفع تلك الستائر  السوداء من فوق العقول لتحويلها إلى ستائر شفافة تستر الحياء المجتمعي بأعرافنا الشرقية ولكنها لا تغطي الجهل.


اعتمدت الكاتبة على الحوار أكثر من اعتمادها على السرد في استدراكات طاهر وشهدان لتناسب ما يدور بينهما من حوار ولتنوع الشخوص المتحدث عنها سواء من أقرانهما وتحديد سمات بعضهم خاصة من قاما بدور المعلم الهارب من دوره التعليمي أو من يتملكه الرعب خوفا من عقاب لمجرد النطق، أو من طاقم التدريس في لغة لم تخل مما يميز الحوار من روح الفكاهة تارة أو من رومانسية اللفظ حال استرجاع ذكريات عشق الصبا، وكأنه رصد نفسي لحالات مرضية رسخت للتعتيم لا لنور العلم فكانت أقرب بتتابع مشهدي لحياة المجتمع في وقت مضى كزمن فقط دونما أي إضافة للكثير من الشخوص، في إشارة لخروج كل من تميز بعيدا عن نطاق جغرافية المجتمع بعد ترحاب به من الخارج لينطلق بعلمه تاركا ستائر الجهل تخيم على منشأه الأصلي.

تشرع الكاتبة في تجميع خيوط العمل الذي جعلت حيزه الزماني الممتد منذ طفولة أبطاله يصل للقارئ في استدراكات ليلة واحدة على لسان طاهر وشهدان حتي تصل للنهاية المبتغاة من روايتها فيجتمع الحبيبان ويقرر طاهر العودة بطفلته (شهدان الصغرى) لموطنه وإظهاره لحقيقة سر عدم قتل أخته وزواجه من شهدان ليرتبط البعد الجغرافي لوادي النيل بين مصر والسودان وتتعلم طاهرة وتحصل على ما يثبت طهرها طبيا وكأنها تحول النهاية في الرواية لبداية جيل جديد هدفه العلم الذي يفتقده الكثير من خلال أطفال طاهر وشهدان وتختتم الكاتبة روايتها بالحادثة الأولى ليعترف المذنب والد الجنين الذي حمل عار اغتصاب والدته طوال عمره بجرمه وذهابه طالبا العفو من ضحيته ولكن أثناء دفنها، وكأنها رسالة للمسارعة في التوبة قبل فوات أوانها.

أبدعت الكاتبة في اقتحام مناطق وعرة مما يتمثل في العقل الشرقي كمناطق محظورة خاصة في مجتمع الجنوب، لتقدم ذلك العمل الأدبي وكأنها تقول ها أنا قد بدأت فاقتدوا بي وتحرروا من ذلك الجهل المطبق على مجتمعاتنا التي تغلفها ستائر الجهل، رغم حصول معظم أفرادها على أعلى الدرجات العلمية لنجعل ما يسترنا من القيم والعادات ما يتناسب مع الدين ، وما يستر عقولنا مجرد ستائر شفافة

التعليقات



جريدة الراصد24

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

جريدة الراصد 24

2020