مرايا الأحلام جريدة الراصد 24 -->
جريدة الراصد 24 جريدة الراصد 24

داخل المقال

جاري التحميل ...

مرايا الأحلام جريدة الراصد 24



قصة قصيرة/سعيد رضواني/المغرب 


…وفتح عينيه، وعندئذ، أبصر عالما لم يره من قبل، وأحس برطوبة في وجهه، رطوبة تنبعث منها رائحة تزكم الأنف… والأعين، التي انفتحت أجفانها على حديقة من الرخام والورود والشجر، ظلت مشدوهة مدهوشة. استغرب الأمر؛ فلا شيء مما يراه الآن قد أطبق عليه أجفانه قبل أن ينام، ولا غفا ولا نام، ربما، أصلا؛ فلا لحظات ما قبل النوم، ولا حياته كلها، تحتمل وجودا سابقا يتذكره. فقط، يتذكر مجموعة من الأحلام. وكأنما الآن قد ولد. لا، لا، لم يولد الآن، ففي ذاكرته لغة وعالم وأفكار. فقط، كأنما ظل نائما طيلة ثلاثين سنة. ثلاثون سنة من عمر افترضه الآن لنفسه مثلما افترض لها ماضيا لا يحتمل الشك ولا يقبل التغيير. ومثلما افترض ذلك، فقد افترض أنه لابد قد حل قبل شهور قليلة ضيفا على هذه المدينة، كي يكد مثل أبناء قريته ويسترجع أرضه التي سلبها منه ذات يوم جاره الذي اتهمه بدين لم يسدده فمنحه الأرض مقابل الدين. لا بد أن يعود إلى أرضه، إلى بقراته التي هي الآن ملك لجاره. ولا بد… ولا بد… ولا بد… ومثلما احتمى بهذه اللابد التي ستنقذه، كما ظن، من الضياع، احتمى من وجع رأسه بسبسيه الذي أخرجه من جوربه، الذي ملأ شقفه بالكيف، الذي امتطى سحائب دخانه وسافر على متنها إلى عوالم أخرى، عوالم لم ترها عين من قبل، ولا خطرت على عقل بشر غير مخدر.

أجفانه، الآن، تتراخى، ورغبة في النوم تجتاحه، وشجيرة دفلى مزهرة تدعوه للاستلقاء تحتها. يقصدها… يدس حافظة النقود في جوربه، ثم ينبطح تحت ظل الشجيرة ويغمض عينيه منتظرا قدوم النوم.

وجاء النوم سريعا، فانسابت الأحلام الجميلة في مخيلته كألحان عذبة تنبعث من ناي حزين…

وفتح عينيه، وعندئذ، أبصر عالما لم يره من قبل، وأحس برطوبة في عنقه، رطوبة تنبعث منها رائحة عطر تزكي الأنفاس. والأعين، التي انفتحت أجفانها على سيارة تحضنه، وعلى فيلات تحيط به، وعلى حديقة جنبه ظلت مشدوهة مدهوشة. استغرب الأمر؛ فلا شيء مما يراه الآن قد أطبق عليه أجفانه قبل أن ينام، ولا غفا ولا نام، ربما، أصلا، فلا لحظات ما قبل النوم، ولا حياته كلها، تحتمل وجودا سابقا يتذكره. فقط، يتذكر مجموعة من الأحلام، وكأنما الآن، الآن فقط، قد ولد. لا، لا، لم يولد الآن، ففي ذاكرته لغة وعالم وأفكار. فقط، كأنما ظل نائما طيلة أربعين سنة. أربعون سنة من عمر افترضه الآن لنفسه، مثلما افترض لها ماضيا لا يحتمل الشك ولا يقبل التغيير. ومثلما افترض ذلك، فقد افترض أنه لابد قد عاد الآن من ضيعته، بعد أن استولى على أرض جاره الذي اتهمه بدين لم يسدده، فأخذ الأرض مقابل الدين. ولا بد أنه عائد في الغد إلى الضيعة كي يحميها من جاره الذي حتما سيحاول استرجاعها. ولا بد… ولا بد… ولا بد… ومثلما احتمى بهذه اللابد التي رأى فيها منقذه من الضياع احتمى بمرآة السيارة كي يتعرف فيها على نفسه. وفي المرآة رأى الوجه العابس، الوجه القانط من الوحدة، رأى خلفه كلبه الذي لم يغنه من الوحدة، رأى يده تسحب علبة بيرة من تحت المقعد، رأى الفم وهو يتجرعها دفعة واحدة، رأى يده وهي تضغط على معدنها بعصبية، وهي ترميها من النافذة، وهي تندس في جيب السترة، وهي تخرج علبة السجائر، وهي تبحث عن حافظة نقوده، فلا تجدها، وهي تبحث عنها في الجيب الآخر، فلا تجدها، في بقية الجيوب، لا تجدها، في صندوق السيارة الداخلي، لا تجدها، تحت فراش السيارة، لا تجدها… يبحث ويبحث ويبحث، لكنه لا يجدها. يغضب، يتوتر، يخمن أن أحدا ما قد مد يده عبر نافذة السيارة المفتوحة واستلها من جيب سترته أثناء نومه. يرتبك، يبحث بعينيه عن السارق حول السيارة، لا يجده. في حيز أوسع، لا يجده. في مجال بصره، لا يجده. يبحث ويبحث ويبحث، لكنه لا يجده. يغضب، يتوتر، يلتفت صوب الحديقة فتصطدم عيناه برجل ممدد تحت شجيرة دفلی مزهرة. يفتح باب السيارة الخلفي ثم الأمامي ويتجه نحوه بخطى سريعة وكلبه وراءه… يقترب منه الكلب، يشمه ثم يرفع إحدى قوائمه ويرشه.

يقترب هو، منه، يرى انتفاخا في جوربه، يركله، يستيقظ الرجل، يسأله عن حافظة النقود. يحاول الآخر أن يجيب لكن الأجفان كانت مثقلة بالنوم… يدس، هو، أنامله في الجورب المنتفخ فيخرج حافظة نقود. لم تكن حافظة نقوده هو. لكنه فكر، وهو يرى النقود الورقية، في انعدام الفرق، وفي أن ما له له وما لغيره له أيضا. يبحث في الجورب الآخر أملا في العثور على وريقات نقدية أخرى، لا يجد شيئا. في الجورب الآخر، لا يجد غير السبسي وكيس الكيف… في الجيوب، لا يجد شيئا.. ينتزع الحذاء، لا يجد شيئا… يرمي الحذاء فوق العشب ويقصد السيارة.

استلقى على المقعد، وحين التفت كعادته، رآها هناك، على الرصيف المقابل تمشي، رأى مشيتها الرشيقة، رأى قوامها مثل سهم متحفز للانطلاق نحو السماء. وحين رأى اهتزاز ردفيها الذي يموج فستانها فوق تضاريس جسدها لم يعد يرى… وكأن العالم اختفى أو كأن الوجود بكامله تحول إلى امرأة، امرأة واحدة لا شريكة لها، امرأة، أشار لها الأن بيده لكنها تجاهلته.. ثم، وكما خمن، التفتت… وحين التفتت غمزها بضوء سيارته… ردت عليه بابتسامة رأى فيها مكرا جميلا… مبتسما يفتح باب سيارته… مبتسمة تصعد… تطبع قبلة على خده الأيمن. ترى رسم فما هناك فتبتسم. يناولها علبة بيرة ويأخذ هو علبة أخرى… ولأنه يشعر بالتعب استأذنها في نوم قصير.

رويدا رويدا طفق النوم يجتاح أجفانه المتعبة، وبعد لحظات غاص في سبات عميق فانسابت الأحلام الوردية كأنغام شجية تنبعث من مزمار نشيط…

وفتح عينيه، وعندئذ، أبصر عالما لم يره من قبل، وأحس برطوبة في صدره، رطوبة تنبعث منها رائحة طيب ينعش النفس. والأعين، التي انفتحت أجفانها على سيارة تحضنه وعلى فيلات تحيط به ظلت مشدوهة مدهوشة. استغرب الأمر. فلا شيء مما يراه الآن قد أطبق عليه أجفانه قبل أنينام. ولا غفا ولا نام، ربما، أصلا؛ فلا لحظات ما قبل النوم، ولا حياته كلها، تحتمل وجودا سابقا يتذكره. فقط، يتذكر مجموعة من الأحلام، وكأنما الآن الآن فقط، قد ولد. لا، لا، لم يولد الآن، ففي ذاكرته لغة وعالم وأفكار. فقط، كأنما ظل نائما طيلة ستين سنة. ستون سنة من عمر افترضه الآن لنفسه، مثلما افترض ماضيا لا يحتمل الشك ولا يقبل التغيير. ومثلما افترض ذلك، فقد افترض أنه لا بد قد عاد للتو من ضيعته بعد أن استولى على أرض جاره الذي سلبها للجار الآخر، ولا بد أن يعود إلى الضيعة ليحميها من جاره الذي حتما سيرجع في الغد كي يحميها من الجار الآخر الذي حتما سيعود في الغد ليسترجعها من الجار الذي حتما سيعود في الغد ليحميها … ولا بد… ولا بد… ولا بد… ومثلما احتمی بهذه اللابد التي رأى فيها منقذه من الضياع، احتمى من الوحدة بالنظر إلى الحديقة، بالنظر إلى سيارة متوقفة جنب الحديقة، بالنظر إلى فتاة داخل السيارة؛ فتاة تتزين مستعينة بمرآة واقية الشمس، تعيد رسم فمها بأحمر الشفاه، تحاول استعادة جاذبيتها التي أذهبها السكر، التي أخمدا الرجل النائم جنبها. تحاول وتحاول وتحاول… وهو يحدق فيها، يحدق ويحدق ويحدق… وفي المرآة رأته يحدق فيها، رأته يشير إليها… رآها ترد على إشارته… رأته يستغرب الأمر… رآها تومئ له… رأته ينزل من سيارته… رآها تستغرب الأمر… رأته يقصدها… رآها تفتح باب السيارة… رأته ينحني كي يكلمها… رآها تشجعه… رأته يتشجع… سمعها تصرح بسكر الرجل النائم… سمعته يدعوها للذهاب معه.

والآخر، الأخر نائم. وعندما يستيقظ فليذهب إلى الجحيم.

فتح بحذر باب السيارة وأطبق على معصم يدها، وإذ هم بالذهاب بها لفتت انتباهه حافظة نقود تطل من سترة النائم. استلها وهو يفكر في أن ما له له وما لغيره له أيضا.تمدد على سريره، ثم التفت نحوها وراح يتأمل نهديها وشعرها المتموج فوق المخدة. ذكره التموج بالاستحمام.

أين سيستحم؟ في البحر؟ لا في الحمام.

بخطى متعبة قصد الحمام… فتح الأنبوب الرشاش وأخذ ينتعش بالماء الدافئ المتناثر رذاذا بلوريا في أرجاء الحمام… جفف جسمه بفوطة ثم عاد إلى السرير حيث تنام أنثاه في وضع استثار شبقه من جديد، كاد أن يبادر… لكنه قرر أن ينام قليلا ليكرس نفسه لجسدها بعد أن يستيقظ، الجسد الذي سيغذي به جسده الذابل، الذي سيسقي به روحه الذاوية، الذي سيعانق في حاضره أمسه البعيد.

وجاء النوم سريعا مرة أخرى، فانبعثت الأحلام مشعة، كأنغام صاخبة، تنبعث من قيثارة ذهبية…

هناك في أعماق بحر النوم رأى نفسه متشردا ينام تحت شجيرة دفلى مزهرة، رأى بقراته وأرضه وجاره وجار جاره، رأى نفسه يركض مرحا رفقة كلبه في حديقة، رأى كلبه يتبول على المتشرد، رأى نفسه يستيقظ في حلم المتشرد ويقصد الحمام لينتعش بمائه الدافئ، رأى نفسه رجلا في سيارة يدخن سيجارة شقراء، رأى نفسه كهلا في سيارة دلفينية يدخن سيجارا كوبيا، رأى الجبال والوديان والأنهار والسماء، رآني وأنا أكتب قصته، رآك وأنت تقرؤها، رآني وأنا أراك تقرؤها، رآك وأنت تراني أراك تقرؤها، رأى نفسه يراك تراني أراك تقرؤها، رأى نفسه يغمز فتاة بضوء سيارته، رأى نفسه وهو ينتزعها من تلك السيارة، رأى أشياء وأشياء… رأى أشياء يعجز عن وصفها القلم، وحين رأي يدا تندس تحت مخدة سريره وتستل حافظة نقوده انتفض.. وفتح عينيه فوجد نفسه مستلقيا على مقعد سيارته وقبل أن يسترجع اطمئنانه شعر بشيء ينسل خفيفا من جيب سترته… تفقد حافظة النقود التي استلها من جورب المتشرد، وحين لم يجدها في مكانها انتفض.. فتح عينيه فوجد نفسه ممددا تحت شجيرة دفلى مزهرة.. ظل منبطحا يتأرجح بين النوم واليقظة… تذكر جاره وجار جاره… تذكر أرضه وبقراته فشعر بحنان دافق يجذبه إلى بقراته، وحين تذكر أنها الآن ملك لجاره أغمض عينيه وعاد إلى النوم من جديد، وفي منتصف النوم رأى جاره وجار جاره وبقراته وأرضه وحافظة نقوده وفتاته قد سرقوا منه.. أفزعته هذه الرؤى فانتفض… وفتح عينيه، وعندئذ أحس برطوبة في وجهه، رطوبة تنبعث منها رائحة تزكم الأنف…

وجاء النوم سريعا، مرة أخرى، فانبعثت الأحلام الجميلة في مخيلته كألحان عذبة تنبعث من ناي حزين…

التعليقات



جريدة الراصد24

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

جريدة الراصد 24

2020