بقلم : قيادى عمالي مستقل محمد عبدالمجيد هندي
على مدار مئة عام، سطر الفلاح المصري قصته بعرقه ودمائه، في أرض تعشقها يداه، لكنها دائمًا ما تئن تحت وطأة ظلم لا يتوقف. هذه القصة ليست مجرد تاريخ، بل هي مرآة تعكس واقعًا أليمًا، حيث عاش الفلاح طوال عقود ضحية إقطاعٍ متوحش، وقرارات سياسية عرجاء، وإهمال متواصل من دولة ترفع شعارات التنمية لكنها تهمل عصبها الحقيقي: الفلاح.
الإقطاع: الجرح الأول
نبدأ من عشرينيات القرن الماضي، حين كان الفلاح مجرد ترس في ماكينة تدار لصالح الإقطاعيين والمستعمرين. آنذاك، كانت الأرض تُقسم بين عدد قليل من العائلات، بينما ملايين الفلاحين يعملون كأجراء، يسحقهم الجوع والمرض، ولا يجدون سوى الذل كجزاء لعملهم الشاق. كانوا يُجبرون على تسليم معظم المحصول كضرائب أو إيجارات، ولم يكن لهم نصيب في خير أرضهم، سوى بقايا الحصاد الذي بالكاد يسد رمقهم.
لكن المأساة لم تكن في الجوع وحده، بل في القهر الذي لم يكن يعرف حدًا. عانى الفلاحون من السخرة في المشروعات الكبرى، ومن الضرائب الباهظة التي لم تترك لهم مجالاً للنهوض. كل هذا كان يجري في ظل صمت مريب، حيث لم تكن هناك نقابات تدافع عنهم، ولا قوانين تحمي حقوقهم.
ثورة يوليو: وعد لم يكتمل
وحين جاءت ثورة يوليو عام 1952، ظن الفلاحون أن الظلم قد انتهى. قانون الإصلاح الزراعي، الذي وزع الأراضي على الفلاحين الفقراء، كان بمثابة الحلم الذي انتظروه لعقود. الأرض التي حرثوها بأيديهم أصبحت ملكًا لهم، لأول مرة في حياتهم.
لكن سرعان ما تحولت الأحلام إلى كوابيس. لم تكن هناك خطة واضحة لدعم الفلاحين الجدد الذين حصلوا على أراضٍ صغيرة. غابت السياسات الزراعية المتكاملة، وبقي الفلاح وحده في مواجهة أزمات الري والأسمدة والبذور. كما أن البيروقراطية والفساد أفرغا القوانين من مضمونها، ليبقى الفلاح عالقًا بين فقره القديم ووضع جديد لم يقدم له الكثير.
السقوط في براثن الانفتاح
وفي السبعينيات، بدأ الانفتاح الاقتصادي كعاصفة جديدة تضرب الفلاحين. الحكومة انشغلت بالصناعات الكبرى واستيراد الغذاء، وتركت الزراعة لتتراجع شيئًا فشيئًا. الفلاح، الذي كان يعتمد على الدعم الحكومي، وجد نفسه فجأة في مواجهة الأسواق المفتوحة التي قضت على قدرته التنافسية.
ثم جاء قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في التسعينيات ليقضي على ما تبقى من آمال الفلاحين. آلاف الأسر الفلاحية التي عاشت لعقود في أراضٍ استأجرتها، وجدت نفسها بلا مأوى أو مصدر رزق، بعدما استعاد الملاك أراضيهم. هذه الخطوة أعادت الإقطاع بشكل جديد، حيث أصبحت الأرض تُباع وتُشترى كسلعة، بينما الفلاح يُطرد منها كالغريب.
الألفية الجديدة: الأزمات تتضاعف
مع دخول القرن الحادي والعشرين، تفاقمت الأزمات. الفلاح المصري أصبح ضحية لتغير المناخ الذي ضرب المحاصيل، وندرة المياه التي أضعفت الإنتاج، وارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية التي جعلت الزراعة مشروعًا خاسرًا.
ولم تقف المعاناة عند هذا الحد؛ بل زادت السياسات الحكومية الطين بلة. بدلًا من دعم الفلاح، اتجهت الدولة إلى استيراد المحاصيل الأساسية، تاركة الزراعة المحلية تنهار. الفلاح الذي كان يُطعم الوطن أصبح عاجزًا عن إطعام نفسه، والأسواق التي كان يعتمد عليها لبيع محصوله أغلقتها سياسات الاستيراد غير المدروسة.
اليوم: الفلاح بين الحياة والموت
في السنوات الأخيرة، أصبح الفلاح المصري نموذجًا صارخًا للإهمال. المياه التي كانت أساس الزراعة أصبحت شحيحة بسبب السدود الإثيوبية، والأسمدة باتت تُباع بأسعار خيالية، بينما المحاصيل المحلية تتعرض للإهمال أو المنافسة غير العادلة من المنتجات المستوردة.
أما على المستوى الاجتماعي، فالريف المصري الذي كان يومًا مهد الحضارة الزراعية بات يعاني من التهميش الكامل. الخدمات الصحية والتعليمية غائبة، والفقر ينهش أجساد الفلاحين وأسرهم. الشباب يهاجرون إلى المدن أو الخارج بحثًا عن فرص عمل، تاركين وراءهم أراضي بورًا، ومجتمعًا يعاني من الشيخوخة.
نداء أخير: هل نعيد للفلاح حقه؟
الفلاح المصري لم يطلب يومًا سوى حقه في الحياة الكريمة. لم يطلب رفاهية أو ترفًا، بل أراد فقط أن يعمل في أرضه، ويحصل على نصيب عادل من خيراتها. لكن هل نستجيب لندائه؟ هل ندرك أن النهضة الزراعية هي الحل الوحيد لمواجهة الأزمات الاقتصادية والغذائية؟
اليوم، إذا كنا نريد مستقبلًا أفضل لهذا الوطن، فعلينا أن نعيد النظر في سياساتنا تجاه الفلاح. يجب أن نوفر له المياه والأسمدة والبذور بأسعار معقولة، وأن نضمن له تسويقًا عادلًا لمحصولاته. علينا أن نستثمر في تطوير الريف، وبناء بنية تحتية قوية تضمن له حياة كريمة.
الفلاح المصري هو رمز للصمود والتحدي، لكن صبره ليس بلا حدود. إذا أردنا أن نحمي هذا الوطن، فعلينا أن نحمي فلاحه، فهو الجندي الذي يزرع الغذاء ويحمي الأرض. فلا تنمية بدون فلاح، ولا أمل بدون الزراعة.
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي القيادي العمالي المستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس