بقلم : محمد عبدالمجيد هندي
مدخل: الرأسمالية كقوة خفية تستولي على القرار السياسي
الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي منظومة شاملة تهدف إلى التغلغل في مفاصل الحكم وفرض سيطرتها على حياة الناس كافة. فهي تستخدم أدواتها في السياسة والإعلام والاقتصاد لتسيير الدول وفقًا لمصالح نخبة ضيقة، هم كبار المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال. هذه المنظومة تعتمد على وسائل مباشرة وغير مباشرة لفرض رؤيتها وتوجيه الحكومات لتطبيق سياسات تحقق أعلى مستويات الربح لنخبتها، مهما كان الثمن الذي يدفعه العامة من فقر واستغلال.
السيطرة على البرلمانات: الوجه الخفي للرأسمالية في السياسة
أصبحت البرلمانات، التي يُفترض بها أن تكون صوتًا للشعب، أداةً خاضعة للرأسمالية. فبدلًا من أن تكون حصنًا للدفاع عن حقوق العمال والفلاحين والفئات المتوسطة، نجدها تُسخَّر لخدمة مصالح الشركات الكبرى، عبر سن قوانين تخدم الأغنياء وتجعل من المال السياسي وسيلة لشراء التأييد وتنفيذ أجندات خاصة. وفي دول كثيرة، يُمنح كبار المستثمرين صلاحيات هائلة للتأثير على القرارات، سواء من خلال تمويل الحملات الانتخابية أو عبر علاقاتهم مع صناع القرار، مما يجعل من هذه البرلمانات مجرد واجهة لاستبداد اقتصادي مقنّع.
السيطرة الاقتصادية والإعلامية: أداة لتزييف الوعي العام
لا تكتفي الرأسمالية بالتحكم في البرلمانات، بل تتوجه لتزييف وعي الشعوب بأدوات أخرى أكثر خطورة. فالإعلام، الذي يُفترض أن يكون منبرًا للحقائق، بات في كثير من الأحيان منصة لترويج القيم الاستهلاكية وخلق قناعة زائفة بأن السعادة تُقاس بما يمتلكه الإنسان. ومع تزايد استهلاك الناس للأخبار المزيفة والدعايات المضللة، يتم تهميش قضايا الشعب الحقيقية، وتركهم غارقين في عالم من الاستهلاك الذي لا ينتهي، حيث تُصبح القيمة الفعلية للفرد مرتبطة فقط بمقدار ما يستطيع أن يستهلكه، لا بما يُضيفه لمجتمعه من قيمة.
الرأسمالية والمجتمعات: تفكيك الروابط الإنسانية لصالح الربح
إن سيطرة الرأسمالية تخلق فوارق شاسعة بين الطبقات الاجتماعية، وتعمل على فصل الناس عن بعضهم البعض، وجعل المنافسة الشرسة هي المبدأ الحاكم في علاقاتهم. هذه السياسة تُضعف التضامن الاجتماعي، وتُغلق الأبواب أمام مفهوم المجتمع المتكامل الذي يُحافظ على حقوق الأفراد ويسعى لرفاهيتهم. وبدلًا من ذلك، نجد نظامًا يسعى لتكريس النزعة الفردية، مما يؤدي إلى خلق مجتمع مفكك ومنهك، حيث يسود الانقسام الطبقي وتختفي القيم الإنسانية، ويُصبح الإنسان مجرّد ترس في آلة تعمل لمصلحة النخبة الثرية.
العمال والفلاحون في مواجهة الرأسمالية: القمع والاستغلال
الرأسمالية لا ترى في العمال والفلاحين إلا وسيلة لزيادة أرباحها، لذلك تسعى لاستغلال جهدهم بأقل تكلفة ممكنة. فهي تُحاول باستمرار تقليص حقوقهم، وتعمل على فرض أجور متدنية وشروط عمل قاسية، بل وتسعى إلى إضعاف دور النقابات المستقلة وإقصاء القيادات العمالية التي تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية. بهذا، يتم تجريد الطبقات العاملة من أدوات الدفاع عن حقوقها، وتُصبح في مواجهة غير متكافئة مع أرباب العمل، مما يحول حياة العمال إلى كفاح دائم من أجل البقاء.
التأثيرات السلبية للرأسمالية على البيئة: الربح على حساب الطبيعة
ومن بين الجرائم التي تُرتكب بحق الأرض والإنسان، ما تفعله الرأسمالية بالبيئة. فالسعي المتواصل نحو الربح الأقصى يدفع الشركات الكبرى إلى استنزاف الموارد الطبيعية بلا رحمة، وتجاهل التحديات البيئية التي يُمكن أن تُدمّر مستقبل الأجيال القادمة. تلجأ الشركات إلى استخدام موارد الأرض بشكل مفرط وتلويث المياه والهواء، دون أدنى اكتراث للعواقب طويلة الأمد. وهكذا، يتحول الكوكب إلى ضحية لهذا النظام الذي لا يعرف إلا الربح.
أهمية الوعي الجماهيري في مواجهة الرأسمالية
في ظل هذا النظام الجائر، يبقى وعي الشعوب السلاح الأقوى لمواجهة الرأسمالية. فلا بد أن تُدرك المجتمعات أن حقوقها لا تُمنح، بل تُنتزع بالنضال المشترك والوعي المستنير. علينا أن نتحد كعمال وفلاحين وطلاب ومثقفين، لنضع حدًا لهذا النظام الاستغلالي ونُعيد تشكيل مفهوم التنمية الحقيقي الذي يسعى إلى تحقيق العدالة للجميع. فلا مجال للاستسلام أمام هذا التمدد الرأسمالي الذي لا يعرف سوى منطق الربح.
الختام: بناء مستقبل يليق بالإنسان
لا يمكننا أن نبني مجتمعًا إنسانيًا قائمًا على التضامن والعدالة إذا استمرت الرأسمالية في بسط سيطرتها على مفاصل حياتنا. إن مواجهة هذا النظام ليست معركة اقتصادية فحسب؛ بل هي معركة أخلاقية وإنسانية تهدف إلى استعادة الكرامة للإنسان، ورفض فكرة تحويله إلى سلعة تُباع وتُشترى. علينا أن نعيد الاعتبار للإنسان كقيمة بحد ذاتها، وأن نناضل من أجل خلق نظام اقتصادي يُحافظ على حقوق الجميع، ويحقق الكرامة الإنسانية، ويُعيد السياسة إلى مسارها الطبيعي كخادمة للشعب، لا خادمة لرأس المال.
هذه المعركة قد تكون طويلة، لكنها ليست مستحيلة.
بقلم القيادي العمالي المستقل: محمد عبدالمجيد هندي، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس