للشاعرة التونسية نعيمة برقاوي
الباحثة والناقدة
آمال بوحرب
1-الصراع الداخلي واختلال الهوية
يشكل مفهوم الفراغ أحد أبرز الموضوعات التي استأثرت باهتمام الفلاسفة والشعراء على حد سواء. فلسفيًا، يعتبر الفراغ تجسيدًا لعدمية الوجود، حيث يلقي الضوء على القضايا العميقة المتعلقة بالحياة والمعنى. كان الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر واحداً من أبرز المعلقين على هذا المفهوم، حيث أشار في كتابه *الوجود والعدم* إلى أن "الوجود الإنساني يحمل في طياته شعورًا دائمًا بالانفصال عن العالم، مما يؤدي إلى تجربة الفراغ كجزء لا يتجزأ من الوجود" من هذا المنظور، يبدو الفراغ ليس مجرد غياب للمعنى، بل هو أيضًا مساحة تتسع للتساؤلات والتأملات حول الهوية والوجود ولعلنا في هذا السياق نعود إلى مقولةً الشاعر الفلسطيني محمود درويش "وأن أكون أو لا أكون، أية حالٍ هذه" في كتابه "لماذا تركت الحصان وحيدا "حيث يشير إلى الوجود بصيغته المعقدة ومشاعر الفراغ التي قد يشعر بها الفرد في مرحلة من مراحل حياته ومن خلال هذه القراءة ربما نتعرف على دور الفراغ بمفهومه الروحي والوجودي في بناء نمط جديد من الوعي والارتقاء من السلبية إلى الأمل من خلال هذه القصيدة المتميزة ؟ونجيب على سؤال ملح في هذا السياق وهو إلى أي درجة تمكنت الشاعرة من الارتقاء بنا في البناء الشعري بمن خلال التدرج الزمني والمعرفي في القصيدة ؟
تقول الشاعرة :
"عناقيد الكلمات"
مدن من ضبابا
بوابات تنفتح على الفراغ
وسكون يطبق قبضته على المكان
مكان بلا ملامح ولا عنوان
هالة من نور بعيدة تسحب أرديتها
من على سحنة الشوق.
والشفق صار بلون الليل..
هزيمُ رعد وعصف وويل
وقلب يرتجف وراء سديم المدى
كشفت شقوقه كل الخبايا
عبر هاتيك الزوايا.
والريح تصرخ تثأر تعوي ،
تناشد تلك المرايا ألّا تنكسر
فتذوي معها أحلام
وتحل بدل الرّجاء أوهام
وتسكن بتجاويف الانتظار آلام .
لا شيء هنا غير بعثرة وحطام
وآكام تستلقي على سفوح الأرق ...
مساحة ملغومة بضجيج ذاكرة
وزخات أمنيات قيد الترك والتأجيل
تقرع ايقاعا من نشاز لمراسم الرحيل
في مواسم الخيبة تصبح الأحلام
مشروبا مرّا
لعلني أسال تلك الفوانيس المهشّمة
في شرفات الانتظار ...
متى يأزف موعد الصّبح؟
ألا كم عصرنا
المعاني من عناقيد الكلمات !
اأ/نعيمة البرقاوي
2-الضباب والفراغ: رحلة البحث عن المعنى
تفتتح القصيدة بصور تعبر عن الضباب والفراغ، حيث تأتي عبارة "مدن من ضباب" لتُشير إلى انعدام الوضوح في الهوية والمكان. إن هذا الضباب يعكس الدافع للكتابة أحيانًا، فالكائن الإنساني يعيش في حالة من الغموض المستمر، يسعى دوماً للعثور على معناه في عالم يتلاشى فيه اليقين. يُمكن اعتبار مفهوم الفراغ معيارًا لتجارب الشخصيات، وهو ما يعيدنا إلى الفكرة في رواية فرجينيا وولف "مدام دالوي"، التي تجسد مشاعر الفراغ والفقد التي تتداخل مع تدفق الوعي وتجاربهم. كما يصف الشاعر الإيطالي إدواردو دي فيليبو الغموض الناتج عن الفراغ في قصيدته "ليس لديك أي فكرة" بـ "الحياة كفكرة مفقودة"، مما يعكس كيف أن الفراغ يمكن أن يُصبح حالة تُقلق النفس وتؤرق الروح. هنا، يتجلى التوتر بين الشغف للحياة واستشعار العدم في كل كلمة تُكتب
3-الأمل وتحدي فكرة الفراغ
لقد أتاح الشعراء للقرّاء فرصة التعمق في تجربتهم الإنسانية مثلاً، يشير الشاعر الأمريكي روبرت فروست في قصيدته "الطريق غير المأخوذ" إلى الاختيارات التي تقودنا إلى شوارع مليئة بالفراغ، حيث يقول: "طريقان متباعدان في غابة، وأنا – اخترت الطريق الذي لم يُسلك، وهذا فرق كل الفرق". يعكس هذا البيت شعور الفرد تجاه الخيارات الفجوة، والتحديات التي تصاحبها، مما يُبرز الفراغ كمساحة للإمكانيات غير المستغلة كما فعلت الشاعرة حين اختارت لها مدينة من الضباب
ومن خلال تأمل الشاعرة في "قلب يرتجف وراء سديم المدى"، تُبنى صورة صراعية تناولها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في قوله إن الإنسان "يجب أن يتعلم كيف يستقبل الصحراء التي تحتضنه" هكذا، يُعبر القلب المرتجف في القصيدة عن ذلك الصراع النفسي بين الرغبة في الأمل والواقع القاسي وتتجلى الإشكالية في تداخل الرغبات المشتعلة واليأس المظلم، حيث تتناغم الكلمات كعناقيد تحمل في ثناياها الفرح والألم. الشاعرة ترسم لنا لوحة معقدة من المشاعر المتضاربة، فالخفقات في القلب ليست مجرد نبضات، بل هي صرخات تحت سماء باهتة، تسعى إلى بلوغ نور الأمل. وفي هذا السياق، تبرز صورة "سديم المدى" كرمز للضياع، بينما تظل الرغبة كنجمة تلتمع في الأفق، تتلألأ ولكن تبقى بعيدة. إن كل محاولة للإفلات من قيود اليأس تتطلب تضحيات، مما يجعل من تجربة الحياة رحلة شاقة نحو تحقيق الذات. في النهاية، تظل الأسئلة مفتوحة، هل ينفتح المدى أمام قلب يرفرف أم يستمر في التخبط بين طموحات جريئة وظلال من اليأس؟
4-الأثر النفسي للانتظار
تعطي الشاعرة مفهوم الانتظار أبعادا نفسية عميقة، حيث تتصاعد الألم مع الإشارة إلى "آلام تسكن بتجاويف الانتظار". يمكن الربط هنا بأفكار الفيلسوفة سيمون دي بوفوار، التي أقرت بأن الحياة البشرية مليئة بالانتظارات والآمال المُحَطّمة، مما يؤكد على التجربة الإنسانية المرتبطة بمعاناة الانتظار إلى أن ينتهي النص بتساؤل حول الأمل: "متى يأزف موعد الصّبح؟" يعبّر هذا التساؤل عن شغف الكائن الإنساني بالتجدد والتغيير تحملنا إلى مقولات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط إلى ضرورة الأمل في حياة الإنسان، حيث يقول "الأمل هو القوة التي تدفع الإنسان نحو العمل والتغيير" والشاعرة تربط بين العتمة التي تحيط بالوجود وبين شعاع الأمل الذي ينتظره القلب بشغف. يتجلّى تساؤل "متى يأزف موعد الصّبح؟" كناية عن ذلك الانتظار المضني لخيبة اليأس ليحل محلها بزوغ الفجر، رمز الحياة الجديدة. يُظهر هذا السؤال مدى تمسك الإنسان بالأمل كقوة دافعة، حيث يسعى نحو التغيير رغم كل التحديات. إن الرغبة في الانطلاق إلى عالم مضيء تعكس جوهر ما قدمه كانط، فالأمل ليس مجرد شعور سطحي، بل هو دافع داخلي يُلهم الكائن الإنساني لمواجهة صعوبات الحياة. في طيات هذه التساؤلات، تتكشف لنا هوية الشاعرة المحتدمة بين العواطف المتباينة، إذ تتوق إلى النور في جوف الظلام، وتسعى لإعادة تشكيل ذاتها ومصيرها إن تلك الأسئلة الليالية تتجاوز حدود اللحظة الراهنة، لتتسائل عن غدٍ مشرق يُعيد للأرواح المعنوية شغفها بالحياة، متجاهلةً قسوة الواقع ومصاعبه
5- البعد الوجودي :تشكل "عناقيد الكلمات" عملًا شعريًا متنوع الأبعاد، فإنها تناقش مشاعر الوجود الإنساني بأعمق تفاصيلها. تستند الشاعرة إلى أفكار حالمة لكنها مؤلمة، مُعَبِّرة عن الصراع الأزلي بين الأمل واليأس، الانتظار والألم. توضح القصيدة أن الإنسان، رغم مواجهة الضباب والفقد، يحاول دوماً استكشاف ضوء يضيء في نهاية النفق. إن هذه الرحلة عبر الكلمات تنعكس فيها التأملات الفلسفية حول الحياة، مما يجعل القصيدة نموذجًا للبحث الدائم عن المعنى في حياة محفوفة بالتحديات.
6-هيكلية القصيدة و أسلوب قراءتها الفنية:
استخدمت الشاعرة في قصيدتها "عناقيد الكلمات" هيكلية متقنة تجمع بين التكرار والإيقاع والصوت. على استخدمت اللغة العربية الفصحى ببلاغة عرفت بها الشاعرة في مجمل أعمالها يعتبر النموذج الصوتي الذي يظهر في هذه القصيدة من أبرز عناصر الهيكلية الفنية التي استخدمها الشاعرة.
من خلال استخدام الألفاظ التي تبدأ بأحرف مثل (م) و (س) و (ر) و (ل) و(ن) و(ع) نجت في أن تضفي على النص مفعولًا صوتيًا يُبرز التكرار الإيقاعي ويعمل على استمرار المعنى وترسيخ الصلة بين الأفكار. فيمكن العودة على مثال السطرين (هزيمُ رعد وعصف وويل/وقلب يرتجف وراء سديم المدى) في هذا السياق، حيث يلجأ الشاعر إلى استخدام الصيغة الصوتية للتوحش والانفعال في صورة (هزيم/ رعد وعصف) ليعكس صوت القلق العميق الذي ينبعث من داخل القلب، وبهذا يُستعمل الصوت كأداة فنية في تعزيز التعبير عن الموقف الوجداني في القصيدة.
يشكل التشبيه جزءًا أساسيًا من جماليات قصيدة "عناقيد الكلمات"، حيث تعكس قدرة الشاعرة نعيمة برقاوي على استخدام الصور الشعرية بشكل مبدع. يتم توظيف التشبيه في عدة مواضع، مثل وصف القلب المرتجف بـ "وراء سديم المدى"، مما يخلق صورة قوية تعبر عن الغموض والقلق الوجودي كما أن استخدام تعبيرات مثل "مدن من ضباب" و"آلام تسكن بتجاويف الانتظار" يضفي عمقًا على المعنى ويتيح للقارئ الاستشعار بالشعور الفلسفي لفكرة الفراغ. تساهم هذه الصور البلاغية في بناء توتر درامي داخل القصيدة، مما يعزز القدرة على استحضار تجارب إنسانية مشتركة ترتبط بالفراغ والهوية، وتضيف بعدًا عاطفيًا يزيد من قوة الأثر النفسي للنص.
أخيرا وإن أثارت تعبيرات الفراغ تساؤلات وجودية معقدة في كلا الحقلين الفلسفي والأدبي فإن التفكير في الفراغ يقودنا إلى استكشاف عمق الوجود الإنساني وأبعاده، مما يستدعي طرح سؤالين وجوديين: هل يمكن للفراغ أن يكون مساحة إيجابية للتأمل الذاتي وإعادة اكتشاف المعنى؟ وكيف نتعامل مع الفراغ كجزء من تجربة الحياة المتأرجحة بين الأمل واليأس؟ الشاعر العراقي بدر شاكر السياب يدعو إلى التأمل في فراغ الحياة عندما يقول: "وفي كل مرة أموت أشعر بأنني لا أملك شيئًا". إن الإجابة عن هذه التساؤلات تأخذنا إلى آفاق جديدة من الفهم حول طبيعة إنسانيتنا في عالم مليء بالتحديات والفرص، حيث يُظهر الشعر بوضوح أن الفراغ ليس نهاية، بل بداية لتفكير أعمق في المعنى وفي الوجود .
المصادر
1- محمود درويش،"لماذا تركت الحصان وحيداً
2- بدر شاكر السياب، "القراءة المحرمة "
جان بول سارتر"الوجود والعدم"
3-فريديريك نيتشه "هكذا تكلم زرادشت "
4-سيمون دي بوفوار"الجنس الثاني "
5-كانط، "نقد العقل الخالص"