“
بقلم الاستاذ : عمرو الريدي - المحامي
تُعتبر مقولة “العقد شريعة المتعاقدين” من أشهر المبادئ القانونية التي يتردد صداها في أروقة المحاكم والمجتمع القانوني. فالعقد، باعتباره اتفاقية مكتوبة أو شفوية بين طرفين أو أكثر، يهدف إلى تحقيق الأمان والثقة بين الأطراف، ويُعد الوسيلة القانونية الأساسية لحفظ الحقوق وتحديد الواجبات.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن إنهاء العقد بإرادة أحد الطرفين منفردًا؟
دور العقد في تنظيم العلاقات
العقود ليست مجرد أوراق موقعة بين طرفين، بل هي بمثابة خريطة طريق تُحدد معالم العلاقة بين الأطراف، وتوضح المسؤوليات والالتزامات بدقة. أهمية العقود تتجلى في عدة جوانب، أبرزها:
1. حفظ الحقوق: يضمن العقد حقوق جميع الأطراف بشكل متساوٍ.
2. توضيح الالتزامات: يحدد العقد بوضوح مسؤوليات الأطراف، مما يقلل من فرص النزاع.
3. تحديد المدة والشروط: يساعد على تقليل المخاطر والخسائر من خلال تحديد مدة الاتفاقية وشروطها.
4. الاستقرار القانوني: يخلق بيئة آمنة للأعمال والعلاقات الاجتماعية من خلال تقليل المفاجآت القانونية.
قاعدة “العقد شريعة المتعاقدين”: الأصل والاستثناء
الأصل القانوني أن العقد لا يجوز تعديله أو إنهاؤه إلا برضا الطرفين، وذلك احترامًا لإرادة المتعاقدين. لكن القانون وضع استثناءات محددة يمكن فيها إنهاء العقد بإرادة منفردة، منها:
1. نص تعاقدي صريح: إذا تضمن العقد شرطًا يتيح لأحد الأطراف إنهاءه بإرادته، مثل عقود الإيجار التي تنص على الحق في الإنهاء بعد مدة معينة.
2. حماية المشرّع: في بعض الحالات، يمنح القانون لأحد الأطراف الحق في إنهاء العقد لضمان العدالة، مثل حق الواهب في الرجوع عن الهبة أو حق المعير في إنهاء العارية.
3. حالات قانونية خاصة: يتدخل القانون أحيانًا لإنهاء العقد بقوة القانون، مثل انتهاء عقد العمل بوفاة العامل أو انتهاء الوكالة بوفاة الموكل أو الوكيل.
محكمة النقض: العقد أمانة بين الأطراف
تناولت محكمة النقض المصرية هذا المبدأ في العديد من أحكامها، مؤكدة أن العقد “وليد إرادتين”، وما تم الاتفاق عليه بين الأطراف يُلزمهم كقانون واجب التنفيذ، شريطة ألا يتعارض مع النظام العام أو الآداب. وذكرت المحكمة في الطعن رقم 2206 لسنة 82 قضائية أن:
• العقد لا يمكن تعديله أو إنهاؤه بإرادة منفردة.
• القضاء لا يتدخل لتغيير إرادة الأطراف، بل يقتصر دوره على تفسير العقد بما يعكس النية المشتركة بين المتعاقدين.
حماية المشرّع واستقرار المعاملات
حرص المشرع على تحقيق التوازن بين احترام إرادة الأطراف واستقرار المعاملات من جهة، وضمان العدالة ومنع الاستغلال من جهة أخرى. لذا، فإن الاستثناءات التي تجيز الإنهاء المنفرد للعقد تعكس رغبة المشرع في توفير الحماية للأطراف الضعيفة في العلاقة التعاقدية.
الخلاصة: العقد مسؤولية قبل أن يكون حقًا
مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” يعكس قيمة الالتزام والاحترام المتبادل بين الأطراف. ومع ذلك، فإن القانون يضع حدودًا واضحة تحول دون استغلال هذا المبدأ للإضرار بالآخرين. لذا، يظل احترام العقود والعمل بموجبها ركيزة أساسية لاستقرار المجتمع والحياة الاقتصادية، مع الإبقاء على ضمانات العدالة التي تُعيد التوازن عند الحاجة.