محمود سعيدبرغش
الزاوية الحمراء هي واحدة من أقدم وأهم المناطق في القاهرة، التي شهدت تحولات هائلة على مر العصور. تاريخها مليء بالأحداث والتحولات التي تعكس التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر. من بداياتها كقرية زراعية قبل الفتح الإسلامي، مرورًا بالعصور الإسلامية المختلفة، وصولًا إلى العصر الحديث، مرت الزاوية الحمراء بتطورات كبيرة جعلتها اليوم واحدة من المناطق الحيوية في القاهرة. هذا المقال يقدم عرضًا مفصلاً حول تاريخ الزاوية الحمراء عبر العصور المختلفة، مع التركيز على أبرز المحطات التاريخية والأحداث التي أثرت في هذه المنطقة، بما في ذلك الفتنة الطائفية التي نشأت بين المسلمين والنصارى في عهد السادات.
البداية: من "ياق" إلى "كوم الريش" (ما قبل الفتح الإسلامي)
تعود أصول الزاوية الحمراء إلى العصور الفرعونية، حيث كانت المنطقة تعرف باسم "ياق"، ثم تطورت في فترة لاحقة لتعرف باسم "كوم الريش". كانت الزاوية الحمراء في تلك الفترة منطقة ذات طابع زراعي بامتياز، حيث كانت تقع بالقرب من ضفاف النيل وتتمتع بأراضٍ خصبة ساعدت في نمو المحاصيل الزراعية التي كانت تمثل مصدر الرزق الرئيسي لسكانها. ومن ثم كانت المنطقة تشتهر بالزراعة وتوريد الحبوب والموارد الأخرى إلى المناطق المحيطة.
عندما وصل الفتح الإسلامي لمصر في القرن السابع الميلادي، كانت الزاوية الحمراء جزءًا من المسار الذي أدخل الإسلام إلى البلاد، ورغم أن المنطقة لم تكن مركزًا حضريًا كبيرًا، إلا أن تأثير الفتح الإسلامي بدأ يظهر في نمط الحياة والأنشطة التجارية والاجتماعية.
الفتح الإسلامي وبداية التحولات (القرن السابع - التاسع الميلادي)
بعد الفتح الإسلامي، دخلت الزاوية الحمراء في شبكة المستوطنات التي كانت تنشأ في منطقة القاهرة الجديدة. بينما استمرت المنطقة في الحفاظ على طابعها الزراعي، بدأت العناصر الثقافية الإسلامية تتسلل إليها تدريجيًا. كان المسلمون قد بدأوا في بناء المساجد وتعليم القرآن في المناطق المحيطة، مما ساهم في التغيرات الاجتماعية والثقافية.
الزاوية الحمراء كانت تحت تأثير التوسع الحضري الذي بدأ في القاهرة مع تطور العواصم الإسلامية في مصر. كانت المنطقة على تواصل مستمر مع الأنشطة التجارية القادمة من مختلف أجزاء البلاد، مما ساعد على تعزيز الاقتصاد المحلي وبدأت تظهر ملامح التحول من الزراعة إلى الحرف والصناعات الصغيرة.
العصر الفاطمي (القرن العاشر - الثاني عشر الميلادي)
في العصر الفاطمي، الذي بدأ في القرن العاشر الميلادي، كانت القاهرة في ذروة ازدهارها كعاصمة للخلافة الفاطمية. بينما كان تأثير الدولة الفاطمية قويًا في المنطقة، كانت الزاوية الحمراء لا تزال تحتفظ بهويتها المحلية، لكنها بدأت تشهد زيادة في الأنشطة التجارية وازدحامًا سكانيًا نتيجة لزيادة حركة التجارة والتوسع العمراني في العاصمة.
بدأت الزاوية الحمراء تأخذ شكلًا أكثر تنظيمًا خلال هذه الفترة، وظهرت العديد من الأنشطة الحرفية التي كانت تمثل الركيزة الاقتصادية للمنطقة. على الرغم من أن الزاوية الحمراء لم تكن مركزًا سياسيًا أو دينيًا رئيسيًا في القاهرة، إلا أنها تأثرت بالأحداث الثقافية التي كانت تشهدها المدينة، وأصبحت نقطة تواصل بين الريف والحضر.
العصر المملوكي (القرن الثالث عشر - الخامس عشر الميلادي)
شهد العصر المملوكي، الذي امتد من القرن الثالث عشر حتى الخامس عشر الميلادي، تحولًا كبيرًا في تاريخ الزاوية الحمراء. في هذه الفترة، كانت المنطقة تشهد ازدهارًا كبيرًا في جوانب متعددة من الحياة: من الاقتصاد إلى الدين والتعليم. أُنشأت في الزاوية الحمراء "الزاوية" أو المسجد الذي أمر بإنشائه السلطان المملوكي قايتباي في القرن الخامس عشر. كانت الزاوية بمثابة مركز ديني وعلمي، حيث كان يلتقي فيها العلماء والطلاب لأداء الصلاة وطلب العلم.
الزاوية الحمراء في هذه الفترة كانت تمثل محطًّا للمؤسسات الدينية والعلمية، وأصبحت مركزًا يتجمع فيه العلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. من هنا، بدأت الزاوية الحمراء تأخذ مكانًا أكبر في المعترك الديني والعلمي في القاهرة.
تم أيضًا طلاء جدران الزاوية باللون الأحمر، وهو ما جعل المنطقة تُعرف باسم "الزاوية الحمراء". هذه المنطقة كانت تتميز بنشاط تجاري كبير، حيث ازدهرت الأسواق التي كانت تزود القاهرة بالمنتجات المحلية.
العصر العثماني (القرن السادس عشر - الثامن عشر الميلادي)
مع دخول العثمانيين إلى مصر في القرن السادس عشر، استمرت الزاوية الحمراء في التوسع والازدهار. العثمانيون قاموا بتوسيع القاهرة بشكل كبير واهتموا بتحسين البنية التحتية، مما ساهم في تعزيز النشاط التجاري في مختلف المناطق بما في ذلك الزاوية الحمراء. ومع هذا التوسع، زادت حركة التجارة في المنطقة، حيث كانت الزاوية الحمراء جزءًا من شبكة واسعة تربط بين القاهرة والمناطق الريفية.
الزاوية الحمراء في هذه الفترة كانت تحتفظ بطابعها الشعبي، حيث بقيت تركز على الأنشطة التجارية والصناعية الصغيرة مثل الحرف اليدوية وصناعة الأثاث. لكن تأثير العثمانيين على المنطقة كان واضحًا في تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
القرن التاسع عشر والعصر الحديث (محمد علي وأوائل القرن العشرين)
في القرن التاسع عشر، ومع وصول محمد علي باشا إلى السلطة، شهدت مصر بشكل عام تغيرات كبيرة في جوانبها العسكرية والاقتصادية. بدأت القاهرة في التوسع بشكل غير مسبوق مع بناء الطرق والجسور الحديثة. الزاوية الحمراء كانت جزءًا من هذا التوسع، حيث ازدادت حركة السكان في المنطقة وبدأت تشهد تغيرات اجتماعية واقتصادية.
في هذه الفترة، استمرت الزاوية الحمراء في الحفاظ على طابعها الشعبي، حيث كانت المنطقة مركزًا مهمًا للأسواق التجارية التي تبيع الحرف اليدوية والأثاث، إضافة إلى أنها كانت تضم ورشًا صغيرة للحرفيين الذين كانوا يشكلون جزءًا أساسيًا من حياتها الاقتصادية.
الفتنة بين المسلمين والنصارى في عهد السادات (1970 - 1981)
في عهد الرئيس أنور السادات، والذي امتد من 1970 إلى 1981، كانت الزاوية الحمراء، مثل العديد من المناطق في مصر، تشهد تحولات اجتماعية وسياسية كبيرة. في هذه الفترة، أُطلق على سياسة السادات اسم "الانفتاح الاقتصادي"، التي ركزت على تعزيز القطاع الخاص وجذب الاستثمارات الأجنبية. بينما كانت هذه السياسات تهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي، إلا أنها أدت إلى توترات اجتماعية في بعض المناطق، ومن بينها الزاوية الحمراء.
في عام 1972، وقعت الفتنة الطائفية في العديد من المناطق المصرية، بما في ذلك الزاوية الحمراء، بين المسلمين والنصارى. الفتنة نشأت بسبب التوترات الدينية والاجتماعية التي كانت تتصاعد في ظل الأزمات الاقتصادية والتفاوت الطبقي. شهدت الزاوية الحمراء عدة اشتباكات بين الجانبين، ما ساهم في توتر العلاقات الطائفية في تلك الفترة. ورغم أن الوضع هدأ بعد فترة، فإن هذه الفتنة أثرت بشكل عميق على العلاقات الاجتماعية في المنطقة.
الزاوية الحمراء في العصر المعاصر (القرن الواحد والعشرون)
مع بداية القرن الواحد والعشرين، واصلت الزاوية الحمراء النمو والتطور رغم التحديات. المنطقة لا تزال تشهد ازدحامًا سكانيًا كبيرًا، حيث لا تزال تحتفظ بتنوعها الاجتماعي والنشاط التجاري الذي يميزها. على الرغم من تزايد التحديات العمرانية، مثل ضعف البنية التحتية والمشكلات المتعلقة بالكثافة السكانية، فإن الزاوية الحمراء تظل واحدة من أكثر المناطق نشاطًا في القاهرة.
شهدت المنطقة أيضًا بعض التحسينات في الخدمات العامة والبنية التحتية في السنوات الأخيرة، حيث بدأ الاهتمام بتطوير المرافق العامة مثل الطرق والصرف الصحي. إلا أن الزاوية الحمراء ما زالت تعاني من تحديات مستمرة في مجال التعليم والصحة.
الخاتمة
تظل الزاوية الحمراء رمزًا حيويًا للتاريخ المصري، وتعتبر شاهدًا حيًا على التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها مصر عبر العصور. من قرية زراعية بسيطة إلى منطقة تجارية نشطة، ومن مركز علمي وديني في العصور الإسلامية إلى محطّة تجارة في العصر الحديث، شهدت الزاوية الحمراء تحولات ضخمة أثرت في حياتها الاجتماعية والاقتصادية. ورغم التحديات التي مرت بها المنطقة، تظل الزاوية الحمراء جزءًا أساسيًا من نسيج القاهرة، تمثل مزيجًا من التاريخ الغني والطابع الشعبي الذي لا يزال يحافظ على هويته الفريدة.