العقل العربي في حيرة، والفكر مضطرب ومشتت، فكلما أراد المواطن العربي البحث والسؤال عما يجري على الساحة العربية من أحداث غريبة ليدرك ويفهم ما يتفاعل في نفسه، بين أصالة هذه الأمة وتاريخها في الشهامة والبطولة والتمرد على الخوف من جهة، وبين ما هو واقع يعيشه في كل الأقطار العربية من تبلّدٍ في المشاعر ومن شلل في العقل ومن انشغال عما يتهددنا من أخطار حاضراً ومستقبلاً من جهة أخرى .
وكلما كاد المواطن العربي أن يصل إلى أعماق الأحداث وحقيقتها ودوافعها، يجد نفسه وقد دخل في دوامة لا قرار لها، وذلك نتيجة لأساليب التضليل التي تبثها أجهزة الإعلام العربية نقلاً عن دعاياتٍ أجنبية موجهة، أو بياناتٍ عربيةٍ تبنت وجهة نظر أمريكية لا تخدم المصلحة القومية، بل تريد للأقطار العربية أن تستمر في غيبوبة الفكر وتبلّد المشاعر، حتى تستطيع في وضح النهار أن تبقى تنهب ثروات الأمة العربية وتستنزف خيراتها وتشكك في قدراتها، حتى يحقق في النهاية أمن إسرائيل الذي تعتبره الولايات المتحدة الأمريكية فوق مصالح الشعب الأمريكي، وفوق كل الاعتبارات .
لقد استخدمت قوى القهر والغدر، وسائل الإعلام المختلفة والموجهة، واستطاعت من خلال تنظيمها المحكم أن تتغلغل في أماكن اتخاذ القرار في أمريكا وأوربا، فقامت بشن حربٍ نفسيةٍ منظمةٍ تسعى بكل الوسائل الشيطانية إلى أن تجعل القيادات العربية تعيش في جوٍ من الشك والريبة والخوف من بعضهم .
لقد استطاعت تلك القوى الشريرة أن تستخدم الترويع والتخويف والتشكيك أسلحةً تحقق مأربها، وأن تجعل الإرهاب الفكري وسيلة لترسم صورة في العقل العربي بأنها الأقرب لنا من أشقائنا، وأنها هي التي تحمي الأنظمة وترعي الأمن وتدعم الاستقرار مما يهددنا من جيراننا، وأنها الأكثر حرصاً على مصلحة أمتنا العربية، فالتاريخ يعيد نفسه .
لأن ذلك ما حاولت أوربا في الماضي القريب تقديمه للقيادات العربية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، واستطاعت أن تتغلغل في عقول الساسة العرب يومذاك وأن تقنعهم بأن هدفها توحيد الأمة العربية لكن الواقع هو أن بريطانيا وفرنسا قد اتفقتا على تقسيم الوطن العربي بينهما بما عرف باتفاقية (سايكس بيكو) ومع الأسف فقد صدق العرب تلك الوعود وسقطوا في براثن الخديعة، وتم اقتسام الدول العربية بين استعمار بريطاني واستعمار فرنسي ولم يعرفوا الرحمة بل داسوا على كل القيم، واستباحوا كل المحرمات ونهبوا الثروات حتى الآثار التاريخية لم تسلم من السرقة .
واليوم مرة أخرى يسوقون لنا بضاعة الأمن والاستقرار بوسائل تتفق مع العصر الحديث، أهمها الوسائل الإعلامية التي تغلغلت في العقول وصدقتها القلوب وترجمتها أنماط السلوك التي ظهرت في العلاقات بين الدول العربية، واستطاعت تلك السياسة الخبيثة أن ترسم صورة مشوهة للأشقاء، وجعلتها تستقر في عقول الكثير من القيادات العربية كحقيقة مسلمة يترتب عليها الطاعة في تنفيذ التعليمات الصادرة تحت غطاء الأمم المتحدة، وترجمتها إلى وسائل عملية في مجال المقاطعة الإقتصادية وغلق الحدود الجغرافية وعزل الدول العربية عزلاً تاماً، حتى أن بعضها فقد سيادته وأصبح تحت الوصاية بكل مقدراته الاقتصادية، كما حدث ويحدث في السودان وليبيا والعراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها من الأقطار التي سقطت جراء مؤمراتهم .
ومن المؤسف أن يصدر القرار العربي من واشنطن وتنفذه كثير من الدول العربية بكل أمانة وإخلاصٍ بالرغم من أن غالبيتها تعلم حقيقة الأهداف التي تسعى إليها القوى العظمى، وأهمها السيطرة على منابع النفط واستغلالها بما يخدم مصالح شعوبها، فهم ليسوا معنيين أبداً بالشعوب العربية .
إن الأمة العربية بذلك ترتكب جريمة في حق نفسها، جريمة الصمت عما يجري من سقوط عشرات الآلاف من الأطفال في العراق، وجريمة المشاهدة والاستمتاع بما تقوم به إسرائيل من عدوان غادر كل يوم يحصد العشرات في لبنان، وجريمة الاستسلام والقبول بالموت البطيء، دون أن يكون لأمتنا رد فعل إيجابي يضع حداً لذلك الغرور والجبروت .
وهنا يتساءل المواطن العربي في كل مكان : ماذا حدث لنا ؟ هل غاب عنا الإدراك والوعي وشلَّت إرادتنا ؟ .. هل نخشى شراً إذا ما سعينا لتحقيق مصالحنا الوطنية واتخذنا الوسائل الكفيلة بحماية أمننا القومي ؟ .. هل نخشى على مواقعنا من أمرٍ لا نعرف ما يخبأ لنا فيه ؟ .. هل خارت قوانا واستسلمنا للمجهول ؟ .. هل نسينا الله فأنسانا أنفسنا ؟ .
إذن إلى أين نحن سائرون ؟ وكيف نستطيع أن نعيد الثقة بأنفسنا وبقدراتنا ؟ ونوظف عناصر الأخوة والمصير والمصالح المشتركة، والأمن القومي المشترك، وإعادة الأمن النفسي، والاطمئنان العقلي للقيادات العربية، حتى تستطيع أن تستعيد ما فاتها في مرحلة الشك والريبة، ليؤمن الجميع بفكر مشترك وتصور أمين وإدراك مؤكد بأن مصلحة الأمة العربية وأمنها واحد لا يتجزأ، وليترجم هذا التوجه بإيجاد آليات عملية تنشط عناصر التكامل والتلاحم بين إمكانات الدول العربية عملاً وفعلاً ؟ كيف يمكن أن تتجاوز قيادات الأمة العربية الحاجز النفسي فيما بينها في الوقت الذي تم فيه إسقاط كافة الحواجز وألغيت كل المحرمات مع العدو الإسرائيلي ؟ .
كيف يمكن أن يكون صاحب مجزرة دير ياسين في فلسطين وضحايا مدرسة بحر البقر في مصر والشهداء في فلسطين ولبنان والآف الضحايا من أبناء أمتنا العربية ، أكثر أمنا لنا من الأشقاء وأقل خطورة من الأقرباء؟ ، أين المؤمنون الذين وصفهم الله في كتابه الكريم بقوله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ " صدق الله العظيم .
أين ذلك الإيمان ونحن أمة الرسالة الداعية للتضامن والوحدة والتعاون في سبيل الله لنقاوم قوى الشر والبغي والطغيان لإرساء قواعد العدل والسلام ؟ فهل ضرب الخوف كل تحركاتنا ؟ وهل استطاع أن يقضي على أية محاولة للتقارب واللقاء فيما بيننا من أجل حوار عقلاني نتباحث خلاله في شؤوننا ومستقبلنا ؟ .
لقد أصبحنا نخاف حتى اللقاءات على مستوى القمة العربية، لأنها صارت شبهة وغدا الكثير يخشى أن يتهم بتأييد اجتماع القمة العربية، لذا نجد القادة يستحدثون حججاً واهيةً لاستبعاد لقاءات القمة العربية، وكأن هناك تحذيراً وخطوطاً حمراء تصل إليهم من مكانٍ ما، وترفض أن يتم أي لقاء عربي حرصاً على ما سينتج من ذلك اللقاء ما قد يضر بأمن إسرائيل أو يَحِدُّ من طغيانها أو يعيق حركتها .
علينا أن نؤمن بأنه لا يمكن أن يحل الغريب محل الشقيق، ولا يمكن للغريب أن يكون أكثر حرصاً من القريب ، فلنتوجه جميعاً بالدعاء إلى الله تعالى أن يجمع شمل أمتنا، ويضيء بصيرة قادتنا ويجعل التراحم والتسامح بينهم سبيلا للتلاقي والتعاون ، تعالوا نقتلع الخوف، تعالوا للقاءٍ وحوار، وذروا الخوف من المجهول ، تعالوا أيها الإخوة نرفع عنا الظلم، تعالوا نقتلع الريبة من الأعماق، تعالوا لندوس الخوف ولترتفع الأعناق ، فنحن قوم لا نخشى إلاّ الله جَلّ جلاله .. اللهم بلغت اللهم فأشهد .
كاتب المقال : رئيس ديوان رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة سابقاً