الاستهواء: قصّة (خيانة للأديب المغربي) د.حسن اليملاحي أنموذجا. جريده الراصد24 -->
جريدة الراصد 24 جريدة الراصد 24

داخل المقال

جاري التحميل ...

الاستهواء: قصّة (خيانة للأديب المغربي) د.حسن اليملاحي أنموذجا. جريده الراصد24

 

الاستهواء: قصّة (خيانة للأديب المغربي) د.حسن اليملاحي أنموذجا. جريده الراصد24

بقلم :هويده عبد العزيز

ناقدة وكاتبة مصرية 

-------------------------------------------

قلَّما يستهويني نص و يظلّ عالقا بذهني، أو جعلني محطّ اهتمامه العاطفيّ والفكريّ بطريقة ما تجعلني أشعر بالرّغبة الشّديدة للتّفاعل مع النّصّ، أو حتّى التّورط في عالمه، و الأدهى أن يجبرك أن تخوض معه التّجربة.

والاستهواء ليس مفهوما وليد اللّحظة، بل هو اصطلاح  دارج في النّقد الأدبيّ والنّفسلوجيّ و سيمياء النّصّ، و هو أحد آليات السّرد التي تعتني بالكثافة الأدبيّة و تقوم على إشراك المتلقّي في الفعل الإبداعيّ، و يعتبر النّصّ المستهوي من النّصوص التي تظلّ عالقة في ذهن المتلقّي بما يحمله من رسائل خفيّة و تساؤلات عميقة عن الوجود و الحياة.

وقصّتنا اليوم  تمثّل أُنموذجًا مميّزًا لاستهواء القارئ واستدراجه عبر  توليفة من الغموض، والإحالات الثّقافيّة الغنيّة التي تدفعه للتّفكير العميق في العلاقة  بين الفنّ أي الأدب و الحياة الشّخصيّـة لروّاده، 

ممّا يجعل هذه القصّة قادرة على أن تترك أثراً طويلاً في ذهن القارئ.

النّصّ  -  خيــانة -

( قرّرت صباح  هذا اليوم المشرق الانتقال إلى منتجع" بورت ينسا" طلبا للرّاحة والاستجمام. وأنا أصل المكان وجدته موحشا ويبعث على الحِيرة. من هنا  مرّ سالفادور دالي و بول إيلوار وغالا. لقد قضيت وقتا ممتعا في هذا المنتجع السّاحر بعيدا عن رتابة العمل. بعد الانتهاء من وجبة الغذاء وفي طريق عودتي إلى مدينة كاداكيس حيث أقيم، فهمت لِمَ تخلّت غالا عن زوجها الشّاعر الفرنسيّ إيلوار.)

 *الاستهواء من خلال الرّمزيّة:

 المنتجع كرمز: وصف الكاتب المنتجع بأنّه "موحش ويبعث على الحيرة"

حالة من الصّراع تتجلّى في مشاعره المتضاربة فبينما يتوق للرّاحة يواجه شعورا بالعزلة وعدم الانتماء، فيصبح المنتجع الذي يحمل عبقا تاريخيّا وفكريّا وفنّيّا تجسيدا للفراغ والضّياع والفشل العاطفيّ.

هذا التّناقض والتّوتر بين المكان والبطل يجعل القارئ بشكل ما منغمسا في الحدث، لتثير دواخله تساؤلات حول المعنى الحقيقيّ للفنّ والجمال.

*الاستهواء عبر الحبكة المتسارعة:

الانتقال السّريع بين الأحداث والأماكن:  فالقصّة تتحرّك بسرعة من موقع إلى آخر، من المنتجع السّاحر إلى المدينة، ممّا يضفي امتدادا نفسيّا ودوافع خفية، ويبقيه رهنَ غير المتوقّع  والمجهول . و متسائلًا عن سبب الخيانة، وعن علاقة هذا الانتقال بالجريمة العاطفيّة.

*الاستهواء في وجبة الغداء:

 يعتبر الغداء طقسا اجتماعيّا و رمزا للتواصل، فتناول الغداء مع من تحبّ يحمل دلالات عاطفيّة واجتماعيّة عميقة، فهو يتجاوز مجرد كونه نشاطاً يومياً معتادا إلى كونه وسيلة للتعبير عن المودّة والاهتمام والتّرابط والحميميّة وتقاسم اللحظات الجميلة، لكن في سياق القصّة لحظة انتقاليّة حاسمة، لحظة وداع، لحظة تكتشف فيها الشّخصيّات خيانة غالا.

 *الاستهواء من خلال الأسلوب الغامض:

بالرغم من أنّ الخيانـة تُذكر في  خاتمة القصّة، ويفترض أنّها نقطة التّنوير إلا أنّ النّصّ لا يقدّم تفاصيل حول كيف حدثت هذه الخيانة أو السّياق الذي وقعت فيه، فتلك الحالة تبقي على حالة الفضول والاستدراج لمعرفة السّرّ وراء الحدث،  و هنا تظهر تجلّيات الأدب  المفتوح.

وما زاد النصّ جمالا هو اللّغة الموجزة الخالية من الزّخارف اللّغويّة، فعادة الأسلوب الخبريّ السلس والبسيط والمباشر لا يستهوي الكتّاب، لكنّه يلائم القصّ الواقعيّ لإعطاء انطباع بالموضوعيّة والحياد، ممّا يجعل القصّة تبدو كما لو كانت تقريرًا أو توثيقًا للأحداث يستشعر  القارئ من خلالها بأنّ هناك طبقات من المعاني التي لم تُكشف، ممّا يدفعه نحو مزيد من الاستغراق والتأمّل.

*الاستهـواء من خلال الهويّات المتعدّدة:

الإشارة إلى الرّموز الأدبيّة و الفنيّة البارزة يدفع القارئ إلى التساؤل عن الدور التي تمارسه هذه الشّخصيات داخل البنيّة النصّيّة، هل هي نزوات عابرة أم شاهدة تاريخيّة وصراع نفسيّ قاتل؟

لماذا ذكر هؤلاء الفنّانين؟ وما العلاقة بينهم وبين غالا؟

غالا كانت محورًا لعدد من العلاقات الملتبسة والمعقدة  بين رواد القرن العشرين، واحتلّت حياة اثنين من أشهر رواده، هما

بول أيلوار أحد أجمل  شعراء القرن العشرين و فيها قال:

 "تلك التي أحبّ تجسّد رغبتي في الحياة، 

 الحياة التي أعيشها الآن، فاذا هي الآن إلى  الأبد. 

تجسّد رغبتي في الحياة بلا حسرة، في حياة بلا ألم، في حياة بلا موت"

غالا (هيلانه ديمتريفناد ياكونوفا): أم ابنته سيسل، تزوجا 1917 عاشا وافترقا دون أن تنطفئ بينهما جذوة الحبّ، حتى بعد زواجها من سلفادور دالي استمرت بينهما المراسلات،

سلفادور دالي رمز للإبداع الجامح ورائد للحركة السريالية، رفض الطّرق الكلاسيكيّة والتّصوير الفنّيّ ليخرج عن المألوف،  هذا الرّفض آنذاك فُهم على أنّه خيانة للقيم الثقافيّة و الجماليّة التقليديّة، حيث كانت أعماله صادمة  للمجتمع.

فقصة دالي، جالا، وإلينوار  مرآة للعلاقات المعقّدة، ودائما ما تثير  تساؤلات عميقة عن الحب. 

الـهويّة، والفـنّ وعلاقتهما بالإبداع، فيتناول الحبّ والإبداع كعنصرين متناقضين، الحبّ كطاقة مفجّرة للإلهام و الإبداع و الحبّ كعائق له بما يمارسه من قيود عاطفيّة تقيّد حركته وعنفوانه.

في نهاية المطاف لعب العنوان دورا محوريّا في سياق القصّة و فهم المغزى الكامن وراء كواليس الحكاية، إنّه الحدث المظلم الذي خيّم على الجوّ العام، بما يحمله من دلالة لفظيّة أو رمزيّة أو رسالة خفيّة،

وكلمة خيانة من الكلمات التي لها وقع ثقيل على النّفس، لما لها من فعل ينطوي على مشاعر مدمّرة  للذّات، مخيّبة ومحطّمة للآمال، وما يتولّد معها من مشاعر كالألم والفقد والخذلان والغدر والظّلم وتدمير الثّقة واليأس والاحباط.

كما لها دور بارز في هندسة العلاقات الإنسانيّة، فمن خلال الإشارة إلى خيانة غالا يُمكن قراءة النصّ كإشارة إلى الخيانة على مستوى  أوسع، مثل خيانة الفنّ أو الفكر. يمكن أن يرى القارئ في القصّة استعارة لخيانة المبادئ أو القيم في عالم يتّسم بالتّقلّب السّريع وعدم الثّبات.

وأحيانا الخيانة تتعلّق بخيانة الذّات، فرؤية العالم بمنظار سوداويّ يجعلنا عاجزين عن رؤية الجمال و الاستمتاع بما لدينا من نعم، وفي أحايين أخرى قد نختار الخيانة كوسيلة للهروب من قيود المجتمع أو من الصّراعات الداخليّة.

 فنحن نخون أنفسنا عندما نتخلّى عن رسالتنا ونخون أحبابنا 

عندما يحتلّنا الفنّ ويعزلنا عن الآخرين، ونخون الفنّ عندما نقدّم تجارب زائفة وصورا سطحيّة و مبتذلة وغير صادقة للآخرين. و نخون روح الفنّ عندما ننزع عنه أصالته ونلبسه ثيابا لا تليق بمجده و زمن ولادته بدعوى التّحرر والحداثة، 

فالفنّ في مجمله التزام إنسانيّ وأخلاقيّ، إنّه شرارة توثّق وتؤرّخ الواقع 

ثورة على القبح البشريّ و رذائل العصر، والتزام يرتقي بالذّوق العامّ، ويسهم في تعزيز وتحفيز الوعي الإنسانيّ بقضاياه و يصحّح المفاهيم.

أتمنى أن أكون وفقت في تأويله و بما أشرت اليه. 

واتمنى للكاتب كل  التوفيق والابداع  والتفرد

التعليقات



جريدة الراصد24

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

جريدة الراصد 24

2020